فصل: من فوائد ابن عاشور في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكلمة أو ليست للشك هاهنا فإن ذلك على علام الغيوب محال ولكنها بمعنى الواو، أو المراد أن كل خوفين فإن أحدهما بالنسبة إلى الآخر إما أن يكون أنقص أو مساويًا أو أزيد، فبيَّن في الآية أن خوفهم من الناس ليس بأنقص من خوفهم من الله فيبقى إما أن يكون مساويًا أو أزيد فهذا لا يوجب كونه تعالى شاكًا فيه ولكنه يوجب إبقاء الإبهام في هذين القسمين على المخاطبين. أو هذا نظر قوله: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} [الصافات: 117] يعني أن من يراهم يقول هذا الكلام. {وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب} [النساء: 77] إن كانت الآية في المؤمنين فهم إنا قالوا ذلك لا اعتراضًا على الله ولكن جزعًا من الموت وحبًا للحياة واستزادة في مدة الكف واستمهالًا إلى وقت آخر كقوله: {لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق} [المنافقون: 10] وإن كان من كلام المنافقين فلا شك أنهم كانوا منكرين لكتبة القتال عليهم، فهم قالوا ذلك بناء على زعم الرسول ودعواه. ومعنى {لولا أخرتنا} هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا، ثم أزال الشبهة وأزاح العلة بقوله: {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير} لا لكل الناس بل {لمن اتقى} فإن للكافر والفاسق هنالك نيرانًا وأهوالًا ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» وأما ترجيح الآخرة فلأن نعم الدنيا قليلة ونعم الآخرة كثيرة، ونعم الدنيا منقطعة ونعم الآخرة مؤبّدة، ونعم الدنيا مشوبة بالأقذار ونعم الآخرة صافية عن الأكدار، ونعم الدنيا مشكوكة التمتع بها ونعم الآخرة يقينية الانتفاع منها. ثم بكت الفريق الخائنين بأنهم يدركهم الموت أينما كانوا ولو كانوا في حصون مرتفعة. والبروج في كلام العرب القصور والحصون وأصلها من الظهور ومنه تبرجت المراة إذا أظهرت محاسنها. والغرض أنه لا خلاص لهم من الموت والجهاد موت مستعقب للسعادة الأبدية، وإذا كان لابد من الموت فوقوعه على هذا الوجه أولى. قال المفسرون: كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما ظهر عناد اليهود ونفاق المنافقين أمسك الله تعالى عنهم بعض الإمساك كما جرت عادته في جميع الأمم قال: {وما أرسلنا في قرية من نبي إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء} [الأعراف: 94] فعند هذا قالت اليهود والمنافقون: ما رأينا أعظم شؤمًا من هذا الرجل؛ نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا منذ قدم. فقوله تعالى: {وإن تصبهم حسنة} يعني الخصب والرخص وتتابع الأمطار قالوا هذا من عند الله، وإن تصبهم سيئة يعني الجدب وانقطاع الأمطار قالوا هذا من شؤم محمد وهذا كقوله: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيّئة يطيروا بموسى ومن معه} [الأعراف: 131]. وقال قوم: الحسنة النصر على الأعداء والغنيمة، والسيئة القتل والهزيمة. وقال أهل التحقيق: خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ وكل ما ينتفع به فهو حسنة. فإن كان منتفعًا به في الدنيا فهو الخصب والغنيمة وأمثالهما، وإن كان منتفعًا به في الآخرة فهو الطاعة. فالحسنة تعم الحسنات، والسيئة تعم السيئات فلا جرم أجابهم الله تعالى بقوله: {قل كل من عند الله} وكيف لا وجميع الممكنات من الأفعال والذوات والصفات لابد من استنادها إلى الواجب بالذات؟ ولهذا تعجب من حالهم وقال: {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا} فنفى عنهم مقاربة الفقه والفهم فضلًا عن الفقه والفهم. قالت المعتزلة: بل هذه الآية حجة لنا لأنه لو كان حصول الفهم والمعرفة بتخليق الله تعالى لم يبق لهذا التعجب معنى ألبة أنه تعالى ما خلقها. والجواب: أنه تعالى لا يسأل عما يفعل. وأيضًا المعارضة بالعلم والداعي. وقالت المعتزلة أيضًا: الحديث فعيل بمعنى مفعول والمراد به الآيات المذكورة في هذه المواضع فيلزم منه كون القرآن محدثًا. والجواب بعد تسليم ما ذكروا أنه لا نزاع في حدوث العبارات إنما النزاع في الكلام النفسي. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)}
الموت فرح للمؤمن، فالخبرُ عن قرْبه بِشارةٌ له، لأنه سببٌ يوصله إلى الحق، ومن أحبَّ لقاء الله أحبَّ اللهُ لقاءه.
ويقال إذا كان الموت لابد منه فالاستسلام لحكمه طوعًا خيرٌ من أن يحمل كرهًا.
ثم أخبر أنهم- لضَعْفِ بصائرهم ومرض عقائدهم- إذا أصابتهم حَسَنَةٌ فَرِحُوا بها، وأظهروا الشكر، وإن أصابتهم سيئة لم يهتدوا إلى الله فجرى فيهم العرْقُ المجوسي فأضافوه إلى المخلوق، فَرَدَّ عليهم وقال: قل لهم يا محمد كلُّ من عند الله خلقًا وإبداعًا، وإنشاء واختراعًا، وتقديرًا وتيسيرًا. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
وجملة: {أينما تكونوا يدرككم الموت} يجوز أن تكون من تمام القول المحكي بقوله: {قل متاع الدنيا قليل}.
وإنّما لم تعطف على جملة: {متاع الدنيا قليل} لاختلاف الغرضين، لأنّ جملة {متاع الدنيا قليل} وما عطف عليها تغليط لهم في طلب التأخير إلى أجل قريب، وجملة: {أينما تكونوا} إلخ مسوقة لإشعارهم بأنّ الجبن هو الذي حملهم على طلب التأخير إلى أمد قريب، لأنّهم توهّموا أنّ مواقع القتال تدني الموتَ من الناس.
ويحتمل أن يكون القول قد تمّ، وأنّ جملة {أينما تكونوا} توجّه إليهم بالخطاب من الله تعالى، أو توجّه لجميع الأمّة بالخطاب، فتكون على كلا الأمرين معترضة بين أجزاء الكلام.
و{أينما} شرط يستغرق الأمكنة (ولو) في قوله: {ولو كنتم في بروج} وصلية وقد تقدّم تفصيل معناها واستعمالها عند قوله: في سورة آل عمران (91): {فلن يقبل من أحدهم مِلء الأرض ذهبًا ولو افتدى به} والبروج جمعُ برج، وهو البناء القويّ والحصْن: والمشيّدة: المبنيّة بالشِّيد، وهو الجصّ، وتطلق على المرفوعة العالية، لأنّهم إذا أطالوا البناء بنوهُ بالجصّ، فالوصف به مراد به المعنى الكنائي.
وقد يطلق البروج على منازل كواكب السماء كقوله تعالى: {تبارك الذي جعل في السماء بروجًا} [الفرقان: 61] وقوله: {والسماء ذات البروج} [البروج: 1].
وعن مالك أنّه قال: البروج هنا بروج الكواكب، أي ولو بلغتم السماء.
وعليه يكون وصف {مشيدة} مجازًا في الارتفاع، وهو بصير مجازًا في الارتفاع، وهو بعيد.
يتعيّن على المختار ممّا روي في تعيين الفريق الذين ذكروا في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفّوا أيديكم} من أنّهم فريق من المؤمنين المهاجرين أن يكون ضمير الجمع في قوله: {وإن تصبهم حسنة} عائدًا إلى المنافقين لأنّهم معلومون من المقام، ولسِبْقِ ذكرهم في قوله: {وإنّ منكم لَمَنْ ليَبُطَئّن} [النساء: 72] وتكون الجملة معطوفة عطف قصّة على قصّة، فإنّ ما حكي في هذه الآية لا يليق إلاّ بالمنافقين، ويكون الغرض انتقل من التحريض على القتال إلى وصف الذين لا يستجيبون إلى القتال لأنّهم لا يؤمنون بما يبلّغهم النبي صلى الله عليه وسلم من وعد الله بنصر المؤمنين.
وأمّا على رواية السدّي فيحتمل أنّ هؤلاء الذين دخلوا في الإسلام حديثًا من قبائل العرب كانوا على شفا الشكّ فإذا حلّ بهم سوء أو بؤس تطَيِّروا بالإسلام فقالوا: هذه الحالة السوأى من شُؤم الإسلام.
وقد قيل: إنّ بعض الأعراب كان إذا أسلم وهاجر إلى المدينة فنمَت أنّعَامه ورفهت حاله حمِد الإسلام، وإذا أصابه مرض أو موتان في أنعامه تطيَرّ بالإسلام فارتدّ عنه، ومنه حديث الأعرابي الذي أصابته الحمّى في المدينة فاستقال من النبي بيعته وقال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنه: «المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها».
والقول المراد في قوله: {يقولوا هذه من عند الله} {يقولوا هذه من عندك} هو قول نفسي، لأنّهم لم يكونوا يجترئون على أن يقولوا ذلك علنًا لِرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يظهرون الإيمان به.
أو هو قول يقولونه بين إخوانهم من المنافقين، يقولون: هذه من عند محمد، فيكون الإتيان بكاف الخطاب من قبيل حكاية كلامهم بحاصل معناه على حسب مقام الحاكي والمحكي له، وهو وجه مطروق في حكاية كلام الغائب عن المخاطب إذا حكى كلامه لذلك المخاطب.
ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى: {ما قلتُ لهم إلاّ ما أمرتني به أنْ أعبُدوا الله ربّي وربّكم} [المائدة: 117].
والمأمور به هو: أن اعبدوا الله ربكَ وربَّهم.
وورد أنّ قائل ذلك هم اليهود، فالضمير عائد على غير مذكور في الكلام السابق، لأنّ المعنيّ به معروفون في وقت نزول الآية، وقديمًا قيل لأسلافهم {وإن تُصبهم سّيئة يطيَّروا بموسى ومن معه} [الأعراف: 131].
والمراد بالحسنة والسّيئة هنا ما تعارفه العرب من قبل اصطلاح الشريعة أعني الكائنةَ الملائمة والكائنةَ المنافرة، كقولهم: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيّروا بموسى ومن معه} [الأعراف: 131] وقوله: {ربّنا آتنا في الدنيا حسنة} [البقرة: 201]، وتعلّقُ فعل الإصابة بهما دليل على ذلك، أمّا الحسنة والسَّيئة بالاصطلاح الشرعي، أعني الفعل المثاب عليه والفعل المعاقب عليه، فلا محمل لهما هنا إذ لا يكونان إصابتين، ولا تعرف إصابتهما لأنّهما اعتباران شرعيان.
وقيل: كان اليهود يقولون: «لمّا جاء محمد المدينة قلَّت الثمار، وغلت الأسعار».
فجعلوا كون الرسول بالمدينة هو المؤثّر في حدوث السّيئات، وأنّه لولاه لكانت الحوادث كلّها جارية على ما يلائمهم، ولذلك جيء في حكاية كلامهم بما يدلّ على أنّهم أرادوا هذا المعنى، وهو كلمة (عند) في الموضعين: {هذه من عند الله هذه من عندك}؛ إذ العندية هنا عندية التأثير التامّ بدليل التسوية في التعبير، فإذا كان ما جاء من عند الله معناه من تقديره وتأثير قدرته، فكذلك مساويه وهو ما جاء من عند الرسول.
وفي البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: {ومن الناس من يَعبد الله على حرف} كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلامًا ونُتجت خيلهُ قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيلهُ قال: هذا دين سوء، وهذا يقتضي أنْ فعل ذلك من مهاجرة العرب: يقولونه إذا أرادوا الارتداد وهم أهل جفاء وغلظة، فلعلّ فيهم من شافه الرسول بمثل قولهم: {هذه من عندك}.
ومعنى {من عند الله} في اعتقادهم أنّه الذي ساقها إليهم وأتحفهم بها لما هو معتاده من الإكرام لهم، وخاصّة إذا كان قائل ذلك اليهود.
ومعنى {من عندك} أي من شؤم قدومك، لأنّ الله لا يعاملهم إلاّ بالكرامة، ولكنّه صار يتخوّلهم بالإساءة لقصد أذى المسلمين فتلحَق الإساءة اليهودَ من جرّاء المسلمين على حدّ {واتّقوا فتنة} [الأنفال: 25] الآية.
وقد علَّمه الله أن يجيب بأنّ كلًا من عند الله، لأنّه لا معنى لكون شيء من عند الله إلاّ أنّه الذي قدّر ذلك وهيَّأ أسبابه، إذ لا يدفعهم إلى الحسنات مباشرةً.
وإن كان كذلك فكما أنّ الحسنة من عنده، فكذلك السيّئة بهذا المعنى بقطع النظر عمّا أرادُه بالإحسان والإساءة، والتفرقة بينهما من هذه الجهة لا تصدر إلاّ عن عقل غير منضبط التفكير، لأنّهم جعلوا بعض الحوادث من الله وبعضها من غير الله فلذلك قال: {فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} أي يكادون أن لا يفقهوا حديثًا، أي أن لا يفقهوا كلام من يكلّمهم، وهذ مدلول فعل (كادَ) إذا وقع في سياق النفي، كما تقدّم في قوله: {وما كادوا يفعلون} [البقرة: 71].
والإصابة: حصول حال أو ذات، في ذات يقال: أصابه مرض، وأصابته نعمة، وأصابه سَهْم، وهي، مشقّة من اسم الصَّوْب الذي هو المطر، ولذلك كان ما يتصرّف من الإصابة مشعرًا بحصولٍ مفاجئ أو قاهر.
وبعد أن أمر الله رسوله بما يجيب به هؤلاء الضالّين علَّمه حقيقة التفصيل في إصابة الحسنة والسيئة من جهة تمحّض النسبة إلى الله تعالى أو اختلاطها بالانتساب إلى العبد، فقال: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك}.